الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ وأما المقسوم من الأسباب، فلا يلزم العبد طلبه، إذ لا حاجة للعبد إلى ذلك، إنما حاجته إلى المضمون وهو من الله وفي ضمان الله. وأما قوله تعالى: فإن قيل: لكن هذا الرزق المضمون له أسباب، هل يلزم منا طلب الأسباب؟ قيل: لا يلزم منك طلب ذلك، إذ لا حاجة بالعبد إليه، إذ الله سبحانه يفعل / بالسبب، وبغير السبب، فمن أين يلزمنا طلب السبب؟ ثم إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا من غير شرط الطلب والكسب، قال تعالى: ثم كيف يصح أن يأمر العبد بطلب ما لا يعرف مكانه فيطلبه؛ إذ لا يعرف أي سبب منها رزقه يتناوله لا عرف الذي صير سبب غذائه وتربيته لا غير ، فالواحد منا لا يعرف ذلك السبب بعينه، من أين حصل له؟ فلا يصح تكليفه، فتأمل ـ راشدًا ـ فإنه بين، ثم حسبك أن الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ والأولياء المتوكلين لم يطلبوا الرزق في الأكثر والأعم، وتجردوا للعبادة، وبإجماع أنهم لم يكونوا تاركين لأمر الله تعالى، ولا عاصين له في ذلك، فليس لك أن تطلب الرزق وأسبابه بأمر لازم للعبد. فما الفرق بين هذا الكلام من هذا الإمام، والمنصوص عليه في كتب الأئمة، كالفقه وغيره؟ وهو أن العبد يجب عليه طلب الرزق، وطلب سببه، وأبلغ من ذلك أن العبد لو احتاج إلى الرزق ووجده عند غيره فاضلاً عنه، وجب عليه طلبه منه، فإن منعه قهره، وإن قتله. فهل هذا الذي نص عليه في المنهاج يختص بأحد دون أحد؟ فأوضحوا لنا ما أشكل علينا من تناقض الكلامين، مثابين، مأجورين، وابسطوا لنا القول. فأجاب ـ رضي الله عنه: / الحمد لله رب العالمين، هذا الذي ذكره أبو حامد قد ذهب إليه طائفة من الناس، ولكن أئمة المسلمين وجمهورهم على خلاف هذا، وأن الكسب يكون واجبا تارة، ومستحبا تارة، ومكروهًا تارة، ومباحًا تارة، ، ومحرمًا تارة، فلا يجوز إطلاق القول بأنه لم يكن منه شيء واجب، كما أنه لا يجوز إطلاق القول بأنه ليس منه شيء محرم. والسبب الذي أمر العبد به أمر إيجاب أو أمر استحباب هو عبادة الله وطاعته له ولرسوله. والله فرض على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه، كما قال تعالى: ولهذا قال بعض السلف: ما احتاج تقي قط. يقول: إن الله ضمن للمتقين أن يجعل لهم مخرجًا مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم، من حيث لا يحتسبون، فيدفع عنهم ما يضرهم، ويجلب لهم ما يحتاجون إليه، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللا، فليستغفر الله وليتب إليه، ولهذا جاء في الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي أنه قال: (من / أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب). والمقصود: أن الله لم يأمر بالتوكل فقط، بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر، وترك ما حذر، فمن ظن أنه يرضى ربه بالتوكل بدون فعل ما أمر به كان ضالا، كما أن من ظن أنه يقوم بما يرضى الله عليه دون التوكل، كان ضالا، بل فعل العبادة التي أمر الله بها فرض. وإذا أطلق لفظ العبادة دخل فيها التوكل، وإذا قرن أحدهما بالآخر، كان للتوكل اسم يخصه. كما في نظائر ذلك مثل التقوى وطاعة الرسول، فإن التقوى إذا أطلقت دخل فيها طاعة الرسول . وقد يعطف أحدهما على الآخر؛ كقول نوح عليه السلام: وقد جمع الله بين عبادته والتوكل عليه في مواضع؛ كقوله تعالى: /وأما من ظن أن التوكل يغني عن الأسباب المأمور بها ، فهو ضال، وهذا كمن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من السعادة والشقاوة بدون أن يفعل ما أمره الله. وهذه المسألة مما سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة والنار" فقيل: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: (لا ! اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وكذلك في الصحيحين عنه أنه قيل له: أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون، أفيما جفت الأقلام، وطويت الصحف؟ ولما قيل له: أفلا نتكل على الكتاب ؟ قال: (لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وبين صلى الله عليه وسلم أن الأسباب المخلوقة والمشروعة ، هي من القدر، فقيل له: أرأيت رقى نسترقى بها؟ وتقى نتقى بها؟ وأدوية نتداوى بها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: (هي من قدر الله). فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه معتمدًا على الله، لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب / مقدورة له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله، كما يؤدي الفرائض، وكما يجاهد العدو، ويحمل السلاح ويلبس جنة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمر به من الجهاد، ومن ترك الأسباب المأمور بها، فهو عاجز مفرط مذموم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنَّ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)، وفي سنن أبي داود: أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر، فقل: حسبنا الله ونعم الوكيل). وقد تكلم الناس في حمل الزاد في الحج وغيره من الأسفار، فالذي مضت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وأكابر المشائخ هو حمل الزاد لما في ذلك من طاعة الله ورسوله، وانتفاع الحامل ونفعه للناس. وزعمت طائفة أن من تمام التوكل ألا يحمل الزاد، وقد رد / الأكابر هذا القول كما رده الحارث المحاسبي في "كتاب التوكل" وحكاه عن شقيق البلخي، وبالغ في الرد على من قال بذلك، وذكر من الحجج عليهم ما يبين به غلطهم وأنهم غالطون في معرفة حقيقة التوكل، وأنهم عاصون لله بما يتركون من طاعته، وقد حكى لأحمد بن حنبل أن بعض الغلاة الجهال، بحقيقة التوكل كان إذا وضع له الطعام لم يمد يده حتى يوضع في فمه، وإذا وضع يطبق فمه حتى يفتحوه، ويدخلوا فيه الطعام، فأنكر ذلك أشد الإنكار، ومن هؤلاء من حرم المكاسب. وهذا وأمثاله من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره، فإن الله خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسبابًا ينالون بها مغفرته، ورحمته، وثوابه في الدنيا والآخرة، فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسبابًا لها، فهو غالط، فالله سبحانه، وإن كان قد ضمن للعبد رزقه وهو لابد أن يرزقه ما عمر، فهذا لا يمنع أن يكون ذلك الرزق المضمون له أسباب تحصل من فعل العبد وغير فعله. وأيضًا، فقد يرزقه حلالاً وحرامًا، فإذا فعل ما أمره به رزقه حلالاً، وإذا ترك ما أمره به، فقد يرزقه من حرام. ومن هذا الباب: الدعاء والتوكل، فقد ظن بعض الناس أن ذلك لا تأثير / له في حصول مطلوب، ولا دفع مرهوب، ولكنه عبادة محضة، ولكن ما حصل به حصل بدونه، وظن آخرون أن ذلك مجرد علامة، والصواب الذي عليه السلف والأئمة والجمهور، أن ذلك من أعظم الأسباب التي تنال بها سعادة الدنيا والآخرة. وما قدره الله بالدعاء، والتوكل، والكسب، وغير ذلك من الأسباب، إذا قال القائل فلو لم يكن السبب ماذا يكون، بمنزلة من يقول: هذا المقتول لو لم يقتل هل كان يعيش ؟ وقد ظن بعض القدرية أنه كان يعيش، وظن بعض المنتسبين إلى السنة أنه كان يموت، والصواب أن هذا تقدير لأمر علم الله أنه يكون، فالله قدر موته بهذا السبب فـلا يموت إلا به كما قدر الله سعادة هذا في الدنيا والآخرة بعبادته، ودعائه، وتوكله، وعمله الصالح، وكسبه، فلا يحصل إلا به، وإذا قدر عدم هذا السبب لم يعلم ما يكون المقدر، وبتقدير عدمه فقد يكون المقدر حينئذ أنه يموت، وقد يكون المقدر أنه يحيى والجزم بأحدهما خطأ. ولو قال القائل: أنا لا آكل ولا أشرب، فإن كان الله قدر حياتي فهو يحييني بدون الأكل والشرب، كان أحمق، كمن قال: أنا لا أطأ امرأتي فإن كان الله قدر لي ولدًا تحمل من غير ذكر.
إذا عرف هذا: فالسالكون طريق الله منهم من يكون مع قيامه بما أمره الله به من الجهاد، والعلم، والعبادة، وغير ذلك عاجزًا عن الكسب، كالذين ذكرهم الله في قوله: فالصنف الأول، أهل صدقات، والصنف الثاني، أهل الفىء، كما قال تعالى في الصنف الأول: ومن السالكين من يمكنه الكسب مع ذلك وقد قال ـ تعالى ـ لما أمرهم بقيام الليل: وأما قول القائل: إن الغذاء والقوام هو من فعل الله، فلا يمكن طلبه كالحياة، فليس كذلك هو، بل ما فعل الله بأسباب يمكن طلبه بطلب الأسباب كما مثله في الحياة والموت، فإن الموت يمكن طلبه ودفعه بالأسباب التي قدرها الله، فإذا أردنا أن يموت عدو الله سعينا في قتله، وإذا أردنا دفع ذلك عن المؤمنين دفعناه بما شرع الله الدفع به، قال تعالى في داود عليه السلام: /وهذا كما أن إزهاق الروح، هو من فعل الله، ويمكن طلبه بالقتل وحصول العلم والهدى في القلب، هو من فعل الله ويمكن طلبه بأسبابه المأمور بها وبالدعاء. وقول القائل: إن الله يفعل بسبب وبغير سبب، فمن أين يلزمنا طلب السبب. جوابه أن يقال له: ليس الأمر كذلك، بل جميع ما يخلقه الله ويقدره إنما يخلقه ويقدره بأسباب، لكن من الأسباب ما يخرج عن قدرة العبد، ومنها ما يكون مقدورًا له، ومن الأسباب ما يفعله العبد، ومنها ما لا يفعله. والأسباب منها، معتاد، ومنها نادر، فإنه في بعض الأعوام قد يمسك المطر ويغذي الزرع بريح يرسلها، وكما يكثر الطعام والشراب بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والرجل الصالح، فهو أيضًا سبب من الأسباب، ولا ريب أن الرزق قد يأتي على أيدي الخلق، فمن الناس من يأتيه برزقه جنى أو ملك أو بعض الطير والبهائم. وهذا نادر، والجمهور إنما يرزقون بواسطة بني آدم مثل أكثر الذين يعجزون عن الأسباب يرزقون على أيدي من يعطيهم، إما صدقة، وإما هدية، أو نذرًا، وإما غير ذلك، مما يؤتيه الله على أيدي من ييسره لهم. /وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا ابن آدم، إن تنفق الفضل خير لك، وإن تمسك الفضل شر لك، ولا يلام على كفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى)، وفي حديث آخر صحيح: (يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى). وبعض الناس يزعم أن يد السائل الآخذ هي العليا؛ لأن الصدقة تقع بيد الحق، وهذا خلاف نص رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر، أن يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى . وقول القائل: إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا. فيقال له: هذا لا يمنع وجوب الأسباب على ما يجب، فإن فيما ضمنه رزق الأطفال والبهائم والزوجات، ومع هذا، فيجب على الرجل أن ينفق على ولده وبهائمه وزوجته، بإجماع المسلمين ونفقته على نفسه أوجب عليه. وقول القائل: كيف يطلب مالا يعرف مكانه؟ جوابه: أنه يفعل السبب المأمور به، ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته؛ مثل الذي يشق الأرض، ويلقي الحب، ويتوكل علي الله في إنزال المطر، وإنبات الزرع، ودفع المؤذيات، وكذلك التاجر غاية قدرته تحصيل السلعة ونقلها، وأما إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها، وبذل الثمن الذي يربح به، فهذا / ليس مقدورًا للعبد، ومن فعل ما قدر عليه لم يعاقبه الله بما عجز عنه، والطلب لا يتوجه إلى شيء معين، بل إلى ما يكفيه من الرزق، كالداعي الذي يطلب من الله رزقه وكفايته من غير تعيين.
فإذا عرف ذلك، فمن الكسب ما يكون واجبًا، مثل الرجل المحتاج إلى نفقته على نفسه، أو عياله، أو قضاء دينه، وهو قادر على الكسب، وليس هو مشغولاً بأمر أمره الله به، هو أفضل عند الله من الكسب، فهذا يجب عليه الكسب باتفاق العلماء، وإذا تركه كان عاصيًا آثمًا. ومنه ما يكون مستحبًا، مثل هذا إذا اكتسب ما يتصدق به، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على كل مسلم صدقة"، قالوا: يا رسول الله! فمن لم يجد . قال: (يعمل بيده ينفع نفسه ويتصدق). قالوا: فإن لم يجد. قال: (يعين ذا الحاجة الملهوف). قالوا: فإن لم يجد، قال: (فليأمر بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة).
وأما قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقًا، فليس الأمر كذلك، بل عامة الأنبياء كانوا يفعلون أسبابًا يحصل بها الرزق، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في المسند عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه)، وكان داود يأكل من كسبه، وكان يصنع الدروع، وكان زكريا نجارًا، وكان الخليل له ماشية كثيرة حتى إنه كان يقدم للضيف الذين لا يعرفهم عجلاً سمينًا، وهذا إنما يكون مع اليسار. وخيار الأولياء المتوكلين، المهاجرون والأنصار، وأبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أفضل الأولياء المتوكلين، بعد الأنبياء. وكان عامتهم يرزقهم الله بأسباب يفعلونها، كان الصديق تاجرًا، وكان يأخد ما يحصل له من المغنم، ولما ولى / الخلافة جعل له من بيت المال كل يوم درهمان، وقد أخرج ماله كله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت لأهلك؟) قال: تركت لهم الله ورسوله، ومع هذا فما كان يأخذ من أحد شيئًا لا صدقة، ولا فتوحًا، ولا نذرًا، بل إنما كان يعيش من كسبه. بخلاف من يدعي التوكل ويخرج ماله كله ظانًا أنه يقتدى بالصديق، وهو يأخذ من الناس إما بمسألة وإما بغير مسألة، فإن هذه ليست حال أبي بكر الصديق، بل في المسند: أن الصديق كان إذا وقع من يده سوط ينزل فيأخذه، ولا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئًا. فأين هذا ممن جعل الكدية وسؤال الناس طريقًا إلى الله، حتى إنهم يأمرون المريد بالمسألة للخلق. وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم مسألة الناس، إلا عند الضرورة، وقال: (لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع) وقال تعالى: ومن هؤلاء من يجعل دعاء الله ومسألته نقصًا، وهو مع ذلك يسأل الناس ويكديهم، وسؤال العبد لربه حاجته من أفضل العبادات، وهو طريق أنبياء الله، وقد أمر العباد بسؤاله فقال: ومن هؤلاء من يحتج بما يروى عن الخليل أنه لما ألقى في النار قال له جبرائيل: هل لك من حاجة ؟ فقال: أما إليك فلا، قال: سل .قال: (حسبي من سؤالي علمه بحالي). وأول هذا الحديث معروف، وهو قوله: أما إليك فلا؛ وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: حسبنا الله ونعم الوكيل، أنه قالها إبراهيم حين ألقي في النار. وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. وأما قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فكلام باطل، خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل، وغيره من الأنبياء من دعائهم لله ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة، كقولهم:
/ فأجاب: الرزق نوعان: أحدهما: ماعلمه الله أنه يرزقه، فهذا لا يتغير. والثاني: ما كتبه وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب، فإن العبد يأمر الله الملائكة أن تكتب له رزقًا، وإن وصل رحمه زاده الله على ذلك، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه). وكذلك عمر داود زاد ستين سنة فجعله الله مائة بعد أن كان أربعين. ومن هذا الباب قول عمر: اللهم إن كنت كتبتني شقيًا فامحني واكتبني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. ومن هذا الباب: قوله تعالى عن نوح: والأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأنه يرزق العبد بسعيه، واكتسابه، ألهمه السعي، والاكتساب، / وذلك الذي قدره له بالاكتساب، لا يحصل بدون الاكتساب، وما قدره له بغير اكتساب كموت موروثه، يأتيه به بغير اكتساب . والسعي سعيان، سعى فيما نصب للرزق؛ كالصناعة والزراعة والتجارة. وسعى بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
والرزق يراد به شيئان: أحدهما: ما ينتفع به العبد . والثاني: ما يملكه العبد، فهذا الثاني هو المذكور في قوله: وأما الأول: فهو المذكور في قوله: والعبد قد يأكل الحلال، والحرام، فهو رزق بهذا الاعتبار، لا بالاعتبار الثاني، وما اكتسبه، ولم ينتفع به هو رزق بالاعتبار الثاني دون الأول، فإن هذا في الحقيقة مال وارثه لا ماله، والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله، ليس هذا هو الرزق الذي أباحه الله له.ولا يحب ذلك ولا يرضاه.ولا أمره أن ينفق منه. كقوله تعالى: ولكن هذا الرزق الذي سبق به علم الله وقدره، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل / ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد)، فكما أن الله كتب ما يعمله من خير وشر، وهو يثيبه على الخير، ويعاقبه على الشر. فكذلك كتب ما يرزقه من حلال وحرام، مع أنه يعاقبه على الرزق الحرام. ولهذا كل مافي الوجود واقع بمشيئة الله وقدره، كما تقع سائر الأعمال، لكن لا عذر لأحد بالقدر، بل القدر يؤمن به، وليس لأحد أن يحتج على الله بالقدر، بل لله الحجة البالغة، ومن احتج بالقدر على ركوب المعاصي، فحجته داحضة، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول، كالذين قالوا: وأما الرزق الذي ضمنه الله لعباده، فهو قد ضمن لمن يتقيه أن يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأما من ليس من المتقين، فضمن له ما يناسبه، بأن يمنحه ما يعيش به في الدنيا، ثم يعاقبه في الأخرة، كما قال عن الخليل: /والله إنما أباح الرزق لمن يستعين به على طاعته، لم يبحه لمن يستعين به على معصيته، بل هؤلاء وإن أكلوا ما ضمنه لهم من الرزق فإنه يعاقبهم، كما قال: وقال تعالى:
/ فأجاب: إن لفظ الرزق يراد به ما أباحه الله تعالى للعبد، وملكه إياه، ويراد به ما يتغذى به العبد. فالأول كقوله: والثاني كقوله: والرزق الحرام، مما قدره الله، وكتبته الملائكة، وهو مما دخل تحت مشيئة الله، وخلقه، وهو مع ذلك قد حرمه، ونهى عنه، فلفاعله من غضبه وذمه وعقوبته ما هو أهله، والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله، جميع الحوادث كائنة بقضاء الله وقدره، وقد أمرنا الله سبحانه أن نزيل الشر بالخير بحسب الإمكان. ونزيل الكفر بالإيمان والبدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة من أنفسنا ومن عندنا، فكل من كفر أو فسق أو عصى فعليه أن يتوب، وإن كان ذلك بقدر الله، وعليه أن يأمر غيره بالمعروف، وينهاه عن المنكر بحسب الإمكان، ويجاهد في سبيل الله، وإن كان ما يعمله من المنكر والكفر والفسوق والعصيان بقدر الله، ليس للإنسان أن يدع السعي فيما ينفعه الله به متكلاً على القدر، بل يفعل ما أمر الله ورسوله، كما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف. وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان). فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرص على ما ينفعه، والذي ينفعه / يحتاج إلى منازعة شياطين الإنس والجن، ودفع ما قدر من الشر بما قدره الله من الخير. وعليه مع ذلك أن يستعين بالله فإنه لا حول ولا قوة إلا به. وأن يكون عمله خالصا لله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، وهذا حقيقة قولك: قال الله تعالى: فالذي ذكره الشيخ ـ رحمه الله ـ هو الذي أمر الله به ورسوله. /والمقصود من ذلك أن كثيرًا من أهل السلوك والإرادة يشهدون ربوبية الرب، وما قدره من الأمور التي ينهى عنها فيقفون عند شهود هذه الحقيقة الكونية، ويظنون أن هذا من باب الرضا بالقضاء والتسليم، وهذا جهل وضلال قد يؤدي إلى الكفر، والانسلاخ من الدين. فإن الله لم يأمرنا أن نرضى بما يقع من الكفر والفسوق والعصيان، بل أمرنا أن نكره ذلك وندفعه بحسب الإمكان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). والله تعالى قد قال: فالمؤمن إذا كان صبورًا شكورًا، يكون ما يقضي عليه من المصائب خيرًا / له، وإذا كان آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، مجاهدًا في سبيله، كان ما قدر له من كفر الكفار سبب للخير في حقه، وكذلك إذا دعاه الشيطان والهوى كان ذلك سببًا لما حصل له من الخير، فيكون ما يقدر من الشر إذا نازعه ودافعه، كما أمره الله ورسوله سببًا لما يحصل له من البر والتقوى وحصول الخير والثواب وارتفاع الدرجات. فهذا وأمثاله مما يبين معنى هذا الكلام. والله أعلم.
/ فأجاب: ما ذكر الخطيب صحيح باعتبار المعنى الذي قصده، وما ذكره الآخر من حذف الاستثناء له معنى آخر صحيح، فإنه إذا قال: برئت من الحول والقوة إليه كان المعنى برئت إليه من حولي وقوتي: أي من دعوى حولي وقوتي، كما يقال: برئت إلى فلان من الدين، ذكره ثعلب في فصيحه، والمعنى برئت إليه من هذا ومنه قوله تعالى: /وهذا الصنيع يتضمن نفي الدين، المعنى أوصلته إليه، وفي غيره اعتذرت إليه، أو ألقيت إليه وضمن معنى ألقيت إليه: البراءة، كما يقال: ألقى إليه القول، والخطيب لم يرد هذا المعنى، بل أراد أنه برىء من أن يلجئ ظهره إلا إلى الله، ويفوض أمره إلا إلى الله، ويتوجه في أمره إلا إلى الله، ويرغب في أمره إلا إلى الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب: (إذا أويت إلى مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) فمعنى قوله: وأبرأ من الحول والقوة إلا إليه: أبرأ من أن أثبت لغيره حولاً وقوة ألتجئ إليه لأجل ذلك. والمعنى لا أتوكل إلا عليه ولا أعتمد إلا عليه. وهنا معنى ثالث: وهو أن يقال: أبرأ من الحول والقوة إلا به، أي أبرأ من أن أتبرأ وأعتقد وأدعى حولا أو قوة إلا به، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وهذا معنى صحيح، لكن الخطيب قصد المعنى الأوسط الذي يدل لفظه عليه، فإنه من له حول وقوة يلجأ إليه ويستند إليه، فضمن معنى الحول والقوة معنى الالتجاء، فصار التقدير أبرأ من الالتجاء إلا إليه، وعلى / هذا الحال فالجار والمجرور متعلق بمعنى الالتجاء الذي دل عليه لفظ الحول والقوة، لا معنى أبرأ، ولما ظن المنكر على الخطيب أن الجار والمجرور متعلق بلفظ أبرأ، أنكر الاستثناء، ولو أراد الخطيب هذا لكان حذف حرف الاستثناء هو الواجب، لكن لم يرده بل أراد مالا يصح إلا مع الاستثناء، والاستثناء مفرغ، فرغ ما قبل الاستثناء لما بعده، والمفرغ يكون من غير الموجب لفظًا أو معنى. ولفظ البراءة وإن كان مثبتًا ففيه معنى السلب، فهو كقوله: فالحفظ لفظ مثبت لكن تضمن معنى ما سوى المذكور، فالتقدير: لا يكشفونها إلا على أزواجهم، وكذلك لفظ البراءة، وقول الخليل: لكن المستدل بالآية أخذ قدرًا مشتركًا، وهو التبري مما سوى الله، وهذا المعنى الذي قصده المستدل بالآية معنى صحيح باعتبار دلالته على التوحيد، وهو البراءة مما سوى الله، وقد ذكر الله هذا المعنى في مواضع؛كقوله تعالى: فإن مقصوده أن يتبرأ مما سوى الله ليس مقصوده أن يتبرأ إليه، لكن الخطيب قصد البراءة من الالتجاء إلا إليه، والالتجاء إليه داخل في عبادته، فهو بعض ما دل عليه قول إبراهيم. فإن الواجب أن يتبرؤوا من أن يعبدوا إلا الله، أو يتوكلوا إلا عليه، وهذا تحقيق التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، لكن الإنسان قد يكون مقصوده إخلاص العبادة في مسألته ودعائه والتوكل عليه والالتجاء إليه، وهذا هو المعنى الذي قصده الخطيب، وهو معنى صحيح يدل عليه لفظه بحقائق دلالات الألفاظ، والمنكر قصد معنى صحيحًا، والمستدل قصد معنى صحيحًا، لكن الإنسان لا ينوي كثيرًا من نفي ما لا يعلم إلا من إثبات ما يعلم، والله سبحانه وتعالى أعلم . آخر المجلد الثامن.
|